من بين المشاريع الكبرى التي تراهن عليها الجزائر الرسمية لتحقيق “طفرتها” الاقتصادية، يبرز مشروع استغلال منجم غار جبيلات. هذا المنجم، الذي يعد من بين أكبر احتياطات خام الحديد غير المستغلة في العالم، يدخل مرحلة هامة مع انطلاق العمل في الشطر الأول من خط السكة الحديدية الذي يربطه بتندوف، في إطار خطة معلنة لربطه ببشار ثم بموانئ المتوسط.
بالإضافة إلى بعده التقني والاقتصادي، يحضر المشروع وبقوة بخلفيته التاريخية والجيوسياسية، وذلك بالنظر إلى ما كان يطرحه منجم غار جبيلات من إمكانيات تعاون مغاربي في فترة السبعينيات، قبل أن يتم إغلاق قنوات الشراكة ويتحول الملف إلى مبادرة جزائرية أحادية بنفس سيادي ، يتم تنفيذها اليوم بشراكة مع الصين !
يقدر الاحتياطي القابل للاستغلال في منجم غار جبيلات بـ1.7 مليار طن من أصل أكثر من 3.5 مليار طن من الحديد الخام، وهو رقم يضع المشروع ضمن قائمة أكبر الموارد المعدنية في القارة. وقد شرعت الجزائر في تطوير البنية التحتية اللازمة لهذا الاستغلال، وعلى رأسها خط للسكة الحديدية بطول يقارب 950 كلم، من تندوف إلى بشار، فالشبكة الحديدية الشمالية.
المقطع الأول من الخط (135 كلم بين غار جبيلات وتندوف) تم إنجازه بالفعل، ضمن شراكة مع شركة CRCC الصينية، في حين لا يزال الربط نحو الشمال قيد الأمنيات ، وسط تقديرات رسمية بإمكانية استكماله بحلول 2026. ومن المنتظر أن تمكن هذه السكة في حال إنجازها بالفعل من نقل ما يصل إلى 50 مليون طن من الخام سنويا، مما يشكل بنية تحتية مركزية للمشروع بأكمله.
إلى جانب ذلك، وقعت السلطات اتفاقيات لإنشاء وحدات صناعية لمعالجة الحديد محليا، من بينها وحدة بطاقة 4 ملايين طن سنويا بشراكة مع شركة Sinosteel، وأخرى بشراكة مع Tosyali التركية، إضافة إلى مشروع لإنشاء مركب صناعي في بشار بتمويل جزائري–صيني من المتوقع أن يبدأ العمل فيه خلال السنوات القليلة المقبلة.

رغم حجم المشروع ومؤشراته التصنيعية، هناك تساؤلات جدية بشأن الجدوى الاقتصادية الكاملة لاستغلال غار جبيلات في ظل الشروط الحالية. المعالجة المسبقة للخام ضرورية نظرا لارتفاع نسبة الفوسفور، وهو ما يرفع الكلفة التقنية للإنتاج. كما أن النقل عبر آلاف الكيلومترات، قبل التصدير من أحد موانئ الشمال، يضيف عبئا لوجستيا وماديا كبيرا.
بحسب تقديرات مستقلة، قد تصل الكلفة الإجمالية لاستخراج ونقل ومعالجة طن واحد من الخام إلى ما بين 165 و180 دولارا، في حين يتراوح سعر خام الحديد عالميا بين 95 و105 دولارا (يوليو 2025). هذا الفرق يجعل تحقيق فارق ربحي رهينا بتحسين شروط الإنتاج، ورفع القيمة المضافة محليا، أو بتغيرات ملحوظة في السوق العالمية وهو أمر مستبعد على الأقل في الأمد المنظور.
لكن في المقابل، يرى بعض المتابعين أن المشروع قد لا يكون موجها فقط للسوق الدولية، بل بالإمكان أن يشكل نواة لصناعة محلية للحديد والصلب، الأمر الذي من شأنه تقليل الاعتماد على الواردات وتحفيز شبكات صناعية ومؤسسات صغيرة في المناطق المعنية.

يحضر منجم غار جبيلات أيضا في الذاكرة السياسية المغاربية، إذ كان موضوع اتفاق تعاون بين المغرب والجزائر في عام 1972 ، تضمن تفاهمات بين الجانبين لاستغلال حديده وتصديره عبر الموانئ الأطلسية المغربية. تلك الرؤية، التي انسجمت حينها مع أجواء التقارب السياسي، لم تستكمل طريقها، وتم طي الملف مع بداية التوترات بين البلدين.
اليوم، يُنفذ المشروع ضمن مقاربة جزائرية أحادية، دون شراكات إقليمية، وهو ما يفقده ربما أحد أبعاده الأصلية، التي كانت تراهن على التكامل بدل الاكتفاء والانكفاء. في المقابل، تراهن الجزائر على شراكة قوية مع الصين لتأمين التمويل والتقنية، ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى توسيع البنية التحتية في الجنوب وربطها بالشبكات الصناعية الأخرى.

يظل مشروع غار جبيلات واحدا من أكبر الرهانات الاقتصادية التي تروج لها الجزائر في السنوات الأخيرة، لكنه يواجه تحديات جدية تتعلق بكلفته المرتفعة، وتأخر إنجاز بنيته التحتية، وغموض آفاقه التصنيعية الفعلية. فرغم ما يملكه من احتياطي ضخم، لا يزال المشروع محاطا بأسئلة مفتوحة حول جدواه التجارية في ظل أسعار سوق غير مستقرة، والقدرة على تجاوز الصعوبات التقنية واللوجستية. أما التصنيع المحلي، الذي يُفترض أن يحصن المشروع من تقلبات السوق، فلا يزال في طور الإعلان والأماني ولم يتحول إلى واقع ملموس. ومع اعتماد شبه كامل على الشريك الصيني في التمويل والتنفيذ، تبقى مسألة توازن الشراكات وتوطين التكنولوجيا محورا هاما لم يتم الحسم فيه بعد، ما يضع المشروع بين الطموح السياسي والاختبار الاقتصادي الحقيقي.
ويبقى البعد المغاربي، رغم غيابه اليوم، عنصرا يستحق أن يتم استحضاره مجددا، ليس فقط من منطلق التاريخ، بل أيضا من منطلق الكفاءة الاقتصادية والتكامل الإقليمي الذي تفرضه الجغرافيا قبل السياسة.