قررت الولايات المتحدة الأميركية استبعاد إسبانيا من اتفاق مسار بحري استراتيجي لنقل الحاويات، كان يربط السواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة بعدد من الموانئ الرئيسية في آسيا، من بينها اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند. هذا المسار، الذي دخل حيز الخدمة في فبراير 2025، يعتبر عنصرا محوريا في سلاسل الإمداد العالمية، وله تأثير اقتصادي ولوجستي مباشر على التجارة الدولية.
وشمل التعديل، الذي تم الشروع في تنفيذه في يونيو الماضي، إخراج ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني من الاتفاق، مع إدراج ميناء طنجة المتوسط كبديل أساسي على خط الشحن، إلى جانب موانئ أخرى في آسيا وأميركا. وجاء القرار أيضا بالتزامن مع استبعاد سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة من المسار ذاته، في خطوة لإعادة ترتيب الأولويات الأميركية في شبكات النقل البحري الاستراتيجي.
وبحسب ما نقلته صحيفة ABC، فإن استبعاد ميناء الجزيرة الخضراء الإسباني كان نتيجة الأزمة الدبلوماسية-التجارية التي انفجرت في نوفمبر 2024، حين رفضت مدريد السماح لسفينتي الحاويات الأميركيتين Maersk Denver وMaersk Seletar، المشاركتين في “برنامج الأمن البحري” الأميركي (Maritime Security Program – MSP)، بالرسو في ميناء الجزيرة الخضراء، وهو برنامج يضم أسطولا تجاريا يستخدمه البنتاغون عند الحاجة في حالات الأزمات أو العمليات العسكرية، ويعتبر جزءا من المنظومة اللوجستية الأميركية العالمية.
ورفضت إسبانيا استقبال السفينتين بدعوى المخاوف من أن حمولة السفن قد تستخدم لدعم عمليات عسكرية ضد مدنيين في مناطق نزاع، وهو ما رأت فيه واشنطن “شروطا غير مواتية للتجارة الأميركية”.
ودفعت هذه الواقعة اللجنة البحرية الفيدرالية الأميركية (FMC) إلى فتح تحقيق رسمي، أكدت خلاله المفوضة ريبيكا ف. داي أمام مجلس النواب الأميركي أن الحكومة الإسبانية اكتفت بالرد عبر رسالة من مكتب محاماة تركز على مبدأ “السيادة” دون تقديم مبررات تشغيلية أو قانونية مفصلة.
الاتفاق الذي تم تعديله كان يضمن لإسبانيا محطة رئيسية في حركة شحن الحاويات العابرة للمحيطات، حيث تمثل التجارة البحرية مع الولايات المتحدة نحو 750 ألف وحدة مكافئة لعشرين قدما (TEU) سنويا، أي قرابة 4% من إجمالي حركة الحاويات في الموانئ الإسبانية. ومن المرجح أن ينعكس استبعاد مدريد من هذا المسار على تكاليف النقل، وإطالة زمن وصول المواد الخام والمكونات الصناعية، مما يضعف تنافسية الصادرات الإسبانية، ويعطي أفضلية للمسارات البديلة خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها المغرب.
خلفيات سياسية وأمنية وتصعيد استخباراتي بين واشنطن ومدريد
القرار الأميركي باستبعاد إسبانيا من المسار البحري الاستراتيجي لا يمكن فصله عن سلسلة من التوترات السياسية والأمنية المتصاعدة بين البلدين في الأشهر الأخيرة، والتي تداخلت فيها ملفات التجارة والدفاع والاستخبارات.
ويتمثل أحد أبرز هذه الملفات في العقد المثير للجدل الذي أبرمته حكومة بيدرو سانشيث مع شركة Huawei الصينية، بقيمة 12,3 مليون يورو، لتزويد منصة التنصت القضائي والشرطي الإسبانية (SITEL) بخوادم وأنظمة تخزين للبيانات الحساسة، بما يشمل معلومات أمنية وقضائية بالغة الأهمية. هذا العقد أثار مخاوف جدية لدى أجهزة الاستخبارات الأميركية، خصوصا وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، التي حذرت من احتمال وجود “أبواب خلفية” (Backdoors) في الأنظمة الصينية، ما قد يسمح بالوصول غير المصرح به إلى البيانات لصالح بكين.
ودفعت هذه المخاوف واشنطن، الأسبوع الماضي، إلى تعليق تبادل المعلومات الاستخباراتية الحساسة مع إسبانيا، في خطوة غير مسبوقة بين عضوين في حلف شمال الأطلسي . مصادر أمنية إسبانية وصفت القرار بأنه مؤشر على “أزمة ثقة” حادة، خاصة أنه يأتي في وقت تعتبر فيه الولايات المتحدة القواعد العسكرية المشتركة في روتا ومورون أساسية لعملياتها في البحر المتوسط وإفريقيا، ولدعم عمليات الناتو.
كما يتقاطع هذا التوتر مع الخلاف الدفاعي حول مقاتلات F-35، حيث رفضت مدريد شراء هذا الطراز من الطائرات الأميركية المقاتلة، وهو ما فسرته دوائر في واشنطن بحسب تقارير إعلامية على أنه إشارة إلى ابتعاد استراتيجي عن الالتزامات الدفاعية المشتركة، رغم أن البنتاغون يرى في تحديث أسطول الطائرات الحربية لحلفائه عنصرا مهما في جاهزية الناتو.
وفي رد رسمي على التحقيق الأميركي البحري، أبلغت الحكومة الإسبانية اللجنة البحرية الفيدرالية في 26 فبراير 2025 أن رفض رسو السفن كان التزاما بالاتفاقيات الدولية التي تحظر مرور أو نقل الأسلحة أو المواد التي يمكن استخدامها في ارتكاب جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف. لكن هذا الموقف، مقرونا بالتوصية بالبحث عن مسارات بديلة، كان بمثابة ضوء أخضر فعلي لتحويل جزء من حركة الشحن إلى ميناء طنجة المتوسط، الذي بات اليوم المستفيد الأكبر من إعادة رسم خريطة الملاحة في غرب المتوسط.
© أطلس إنسايت – يمنع نسخ أو إعادة نشر هذا المحتوى بأي وسيلة، ورقيا أو رقميا، دون موافقة مسبقة.