نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية تحقيقا موسعا يكشف “الدور الخفي” الذي يلعبه شمس الدين حافظ، عميد الجامع الكبير في باريس، بوصفه قناة تواصل غير رسمية بين باريس والجزائر في خضم أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين، التحقيق سلط الضوء على مساره الشخصي وعلاقاته السياسية وتشابك الدور الديني بالنفوذ السياسي. تاليا تلخيص لأبرز ما ورد في التحقيق:
في قلب الأزمة غير المسبوقة بين فرنسا والجزائر، يظهر اسم شمس الدين حافظ بوصفه الرجل الذي يلجأ إليه الطرفان عندما تنقطع قنوات الاتصال الرسمية.
يوصف بأنه مبعوث الملفات الشائكة، خاصة في قضايا مثل قضية الكاتب الجزائري بوعلام صنصال المعتقل منذ ثمانية أشهر وفي ظرف قررت فيه السلطات الجزائرية قطع التعاون الأمني مع باريس.
في نظر دوائر الإليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية، هو “السفير الحقيقي للجزائر” في فرنسا، وصوت الرئيس عبد المجيد تبون الذي يستقبله بانتظام في قصر المرادية، ويتمتع في الوقت ذاته بعلاقة وثيقة مع الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي منحه وسام جوقة الشرف ودعاه في أبريل الماضي لحضور جنازة البابا في روما.
يعرفه الجميع باسمه الأول “شمس”، من سياسيين ومسؤولين وصحفيين ومثقفين، ويصفه كثيرون بأنه رجل مثقف، لبق، يتحدث بخطاب “جمهوري” لا غبار عليه، لكنهم في الوقت نفسه يحذرون من ازدواجيته. البعض يقول: “هو شخصية مزدوجة، يجب الحذر منه”.
يتولى حافظ منصب عميد الجامع الكبير في باريس، ذلك الصرح المعماري البديع الذي شيد سنة 1926 تكريما للمسلمين الذين سقطوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى. هذا المعلم، الذي يقع في قلب الحي اللاتيني، يضم مئذنة بارتفاع 33 مترا، قاعة صلاة ضخمة للرجال بينما خصص الطابق السفلي للنساء ، وحدائق غناء من النخيل والياسمين، ومطعما وحماما شرقيا وقاعات لتعليم اللغة العربية والخط وإقامة الندوات.
لكن خلف هذا الوجه العام، هناك عالم آخر في الظل، تحت نفوذ الأجهزة الجزائرية، إذ تمول الجزائر المسجد عبر المنح، كما أسندت إليه منذ 2023 مهمة التصديق على شهادات الحلال لجميع الصادرات الأوروبية نحو الجزائر، وهو نشاط اقتصادي مربح.
يصف أحد الدبلوماسيين هذا المكان قائلا: “هنا كل شيء يبدو غامضا، شاعريا، مختلطا بالنفوذ السياسي. نحن في الفناء الخلفي للجزائر”. فالجامع الكبير في باريس مرآة لتاريخ العلاقات المعقدة بين فرنسا والجزائر.
يقدم حافظ نفسه كشخصية حكيمة، حريصة على لعب دور الجسر بين فرنسا والجزائر، وبين الجمهورية والإسلام. وقد نشر مؤخرا كتابا بعنوان “تفكيك الظلال” ينتقد فيه تصاعد الهجمات ضد المسلمين والمناخ المشحون بالريبة الذي يقول إنه يطاله هو شخصيا. ويؤكد استعداده “لوضع كل شيء على الطاولة”.
في مكتبه بالطابق الأول من المسجد، تتجاور الأرائك الوثيرة مع المصحف الكبير وتمثال مصغر لنخلة ذهبية، وعلى الجدار صورة للأمير عبد القادر الجزائري. حافظ، الذي تجاوز السبعين، يتحدث بنبرة هادئة، ويقول: “كتبت هذا الكتاب وأنا أشعر بجرح عميق. أسمع الناس هنا يتحدثون عن خوفهم وإحساسهم بالتهميش. صعود اليمين المتطرف وأجواء التحريض تترك أثرا مؤلما. أنا لا أنتظر شيئا شخصيا، لكنني سأظل أدافع حتى النهاية عن حق المسلمين في أن يعاملوا كمواطنين كاملي الحقوق”.
حول حافظ تدور حركة نشطة لمساعدات وموظفين ومستشارين إعلاميين، إضافة إلى حراس أمن فرنسيين لحمايته منذ أن تلقى تهديدات جدية عقب اغتيال المدرس صامويل باتي.
إلى جانبه يظهر محمد لوحنوقي، الأمين العام للمسجد، وهو رجل ستيني يرتدي حذاء ورديا خفيفا وقميصا من ماركة عالمية. هذا الرجل كان في الماضي ضابطا في المخابرات الجزائرية (DRS) قبل أن يصل إلى باريس في التسعينات بحجة مكافحة الجماعات المسلحة الجزائرية. السلطات الفرنسية على علم بماضيه، بل إن وزارة الداخلية رفضت منحه الجنسية سنة 2011 بسبب “قربه من أجهزة الأمن الجزائرية”، قبل أن يحصل عليها لاحقا. ظل لوحنوقي طوال سنوات مصنفا في قوائم المراقبة الأمنية (ملف S)، ما جعله يخضع للتوقيف والتفتيش في المطارات، وهو اليوم الذراع اليمنى لحفيظ في إدارة شؤون المسجد.
يصفه بعض من عملوا في المسجد بأنه “عين الجزائر” هناك، وشخص يثير الخوف بين الموظفين، لكنه في الوقت ذاته كان أداة فعالة لمراقبة الجالية الجزائرية ورصد الإسلاميين.
أما حافظ نفسه، فقد ارتبط بالجامع منذ 1999 كمحام، ليس له وحده بل لكل المؤسسات الجزائرية في فرنسا، بما فيها السفارة والقنصليات والخطوط الجوية وحتى جبهة البوليساريو، التي تدعمها الجزائر في نزاعها مع المغرب.
ولد حافظ في الجزائر عام 1954 لعائلة فقدت ممتلكاتها خلال الاستعمار، وله شقيقان أكبر منه شاركا في حرب التحرير؛ أحدهما قتل والآخر أصيب بجروح . يقول إنه كان يزور قبر أخيه الشهيد كل أسبوع مع أسرته.
يؤكد حافظ أن مهمته هي الدفاع عن إسلام منفتح ومندمج في المجتمع الفرنسي، ويحرص على التذكير بمواقفه الصارمة ضد الإسلام السياسي، وهي مواقف جرت عليه تهديدات كثيرة. لكنه يظل، في نظر كثيرين، شخصية تتحرك بين عالمين: عالم الخطاب العام المليء بدعوات التعايش، وعالم النفوذ الخفي الذي يربط المسجد بالأجهزة الجزائرية.
بعد مسيرته الطويلة كمحام للمؤسسات الجزائرية في فرنسا، أصبح شمس الدين حافظ شخصية بارزة في الدوائر السياسية والثقافية، يجمع بين الحضور الرسمي في المناسبات العامة والدور غير المعلن كقناة تواصل خلفية بين العاصمتين. نفوذه لم يأت فقط من موقعه الديني، بل أيضا من شبكته الواسعة من العلاقات التي تمتد إلى أروقة السلطة في الجزائر وفرنسا.
التحقيق يكشف أيضا أن حافظ لعب أدوارا حساسة في ملفات ذات طابع استراتيجي، منها التعامل مع قضايا الهجرة، ومراقبة الخطاب الديني، وضبط مسألة اعتماد الأئمة الموفدين من الجزائر إلى المساجد الفرنسية، وهي مسألة تمثل أداة نفوذ سياسي وثقافي. ووفق شهادات وردت في المقال، فإن جامع باريس الكبير لم يكن مجرد مؤسسة دينية، بل منصة سياسية غير مباشرة، حيث يجري من خلاله تمرير رسائل أو إدارة توازنات معقدة بين باريس والجزائر.
وأشار التحقيق إلى أن إدارة الجامع ظلت لسنوات تحت إشراف شخصيات مرتبطة بشكل مباشر بالمصالح الجزائرية، وأن هذه الإدارة تعتمد على تمويل رسمي من الجزائر يشمل تغطية جزء كبير من التكاليف التشغيلية، إضافة إلى عائدات نشاط التصديق على المنتجات الحلال، وهو نشاط اقتصادي مهم يمنح الجزائر قدرة على الرقابة والتحكم.
في خطاباته العلنية، يحرص حافظ على التمسك بخطاب يدعو إلى الاعتدال والاندماج، ويرفض علنا الأفكار التي تروجها التيارات الإسلامية السياسية. ويقول إنه يدافع عن صورة الإسلام كدين متوافق مع قيم الجمهورية الفرنسية. لكن خصومه يرون أن هذا الخطاب العام يخفي واقعا آخر يتمثل في تبعية المؤسسة التي يديرها لمصالح الدولة الجزائرية، واستخدامها كأداة نفوذ في السياسة الفرنسية.
كما يستحضر المقال مسار حافظ الشخصي، بدءا من نشأته في الجزائر، مرورا بدراسته للقانون وممارسته المحاماة، وصولا إلى توليه إدارة الجامع الكبير. ويبرز تأثير خلفيته العائلية، خاصة أن والده وأخويه كانوا جزءا من التاريخ النضالي الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما يفسر جانبا من التزامه العاطفي تجاه الجزائر.
التحقيق يختتم بالإشارة إلى أن الأزمة الدبلوماسية الحالية بين باريس والجزائر، الناتجة عن الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء، وضعت شخصيات مثل حافظ في موقع شديد الحساسية. فبينما تتوتر العلاقات الرسمية، يبقى هو أحد القنوات القليلة التي يمكن للطرفين استخدامها للتواصل، حتى وإن كانت صورته في فرنسا مثيرة للجدل، تجمع بين الاحترام والشبهة.