الخميس, أكتوبر 23, 2025
الرئيسيةرأي أطلس إنسايتحين يخطئ المشرق قراءة المغرب

حين يخطئ المشرق قراءة المغرب

لم تخل التغطيات التي خصصتها بعض القنوات الفضائية العربية للاحتجاجات الأخيرة في المغرب من قدر من السذاجة التي تنم عن سوء فهم عميق لطبيعة الواقع المغربي، إذ تعاملت تلك المنابر مع الأحداث بعين المشرقي الذي يرى في كل حراك اجتماعي إرهاصا لثورة قادمة لا محالة، وكأن المغرب مجرد نسخة توأم من بلدانهم، بلا خصوصية ولا ذاكرة ولا تاريخ صاغ تجربته السياسية والاجتماعية على نحو مغاير تماما.

ذلك التناول المتعجل لم يكن وليد لحظة إعلامية عابرة، بل هو انعكاس لعجز مزمن عن إدراك التعقيد المغربي في تراكماته الطويلة، وكسل في مقاربة مسار تاريخي وعر تشكل عبر أزمات متكررة بل وهزات عنيفة، لكنه أفرز في النهاية آليات ذاتية لإعادة التوازن وضمان الاستقرار. إن هذا التاريخ الطويل من الإصلاحات الجزئية والاستجابات المرحلية، بكل بطئه وتعرجاته، أوجد في بنية الدولة والمجتمع نوعا من المناعة ضد الانزلاق إلى فوضى شاملة أو مواجهة مفتوحة، وهو ما عجز الإعلام الفضائي/المشرقي عن التقاطه أو حتى الإشارة إليه.

وبدل أن يتعامل مع الوقائع بما تقتضيه من حذر وتحليل، اختارت تلك القنوات الآتية من الشرق  تضخيم مشاهد معزولة ومقاطع محدودة، لتقدمها بوصفها دليلا على انفجار وشيك، متجاهلة في المقابل حجم الدعوات إلى التهدئة، وتدخل هيئات الوساطة، ومظاهر الوعي الشعبي التي حالت دون انزلاق الأمور إلى ما كانت تتمناه سرديات الإثارة.

أما على شبكات التواصل، فقد بدا مشهد الحماس المشرقي أكثر انكشافا: مؤثرون يتسابقون لإسقاط تجاربهم السابقة على المغرب، وكأن ما عاشوه يصلح قالبا لتفسير كل ما يجري في العالم العربي، وقرأوا المشهد المغربي بعيونهم لا بعيون المغاربة، فغابت عنهم حقائق أساسية تتمثل في أن المغرب ليس جزيرة معزولة عن محيطه الإقليمي والدولي، وأن أي حراك داخلي فيه محكوم بشبكة من التوازنات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تجعله أعقد من ثنائية “الشارع ضد السلطة” التي استسهلها الخطاب المشرقي. هذا الإسقاط المتحمس لم يكن سوى محاولة غير واعية لتصدير تجربة مأزومة إلى فضاء لا يشبهها لا في تركيبه الاجتماعي ولا في بنيته السياسية ولا في علاقته التاريخية بالدولة.

خلف هذا القصور في الفهم، يختبئ جهل عميق بالبنية المتعددة للمجتمع المغربي، بتنوعه اللغوي والثقافي، وبترسخ مؤسسة فريدة كالبيعة، وبالطابع التراكمي للعلاقة بين الدولة والحركات الاجتماعية، علاقة لا تنفجر دفعة واحدة، بل تدار وتحتوى وتعاد صياغتها باستمرار. لذلك جاءت التحليلات الفضائية سطحية، بل وأحيانا متواطئة مع تصورات إيديولوجية مسبقة، تبحث عن دليل جديد لتأكيد أطروحات قديمة حول الأنظمة العربية، أكثر مما تبحث عن فهم حقيقي لما يجري.

لقد غاب عن معظم هذا الإعلام أن المغرب لا يذوب في السرديات الجاهزة التي صيغت في المشرق. فهو ليس قصة ثورة مؤجلة ولا انهيار وشيك، بل حكاية تجربة مستمرة في إدارة الأزمات وامتصاص الصدمات وإعادة إنتاج الاستقرار، تجربة تتقدم ببطء أحيانا، لكنها تمضي بثبات داخل منطق مغربي خالص، تميزه الواقعية والمرونة أكثر مما تميزه الشعارات. لذلك، فإن كل قراءة متسرعة أو منفعلة لا تنتج سوى صورة مغلوطة، تزيد في اتساع الهوة بين حقيقة المغرب كما هو، وصورته كما ترسم في المخيلة المشرقية.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

الأكثر شهرة

احدث التعليقات