رغم تجدد الدعوات الرسمية من المغرب، وفي مقدمتها الدعوات الصريحة التي يوجهها الملك محمد السادس نفسه منذ سنة 2018، لا تزال الجزائر ترفض الانخراط في أي حوار ثنائي مباشر مع الرباط. آخر هذه الدعوات جاءت في خطاب العرش يوم 29 يوليوز 2025، حين دعا الملك إلى “حوار صريح ومباشر” مع الجزائر، مؤكدا “الالتزام باليد الممدودة …لتجاوز الوضع المؤسف”. لكن الرد الجزائري الرسمي ظل غائبا، كما في كل مرة، ما يطرح سؤالا جوهريا: لماذا ترفض الجزائر الحوار مع المغرب رغم الدعوات المتكررة ؟
1. الصحراء: جوهر الرفض ومحور كل الحسابات
تبرز قضية الصحراء في مقدمة أسباب التوتر والصراع بين الرباط والجزائر. وبرغم إعلان الأخيرة المتكرر أنها “ليست طرفا في النزاع”، فإن دعمها السياسي والعسكري والمالي لجبهة البوليساريو موثق ومتواصل. والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يكاد لا يفوت فرصة للتذكير بموقف بلاده “الحيادي”، كما حدث خلال مقابلته الأخيرة أو في مقابلة قناة الجزيرة (ماي 2023) حين اعتبر ان موقف بلاده “ثابت ولن يتغير”، وأن “مستقبل الصحراء الغربية يقرره الصحراويون أنفسهم”.
ومن هذا المنطلق، ترى الجزائر أن الجلوس مع المغرب على طاولة الحوار دون اشتراطات مسبقة، قد يفهم دوليا كاعتراف ضمني بكونها “الطرف المباشر” في النزاع، وأنها المحاور الرئيسي القادر على تحريك المياه الراكدة في سبيل التوصل إلى حل نهائي، مما قد يشكل تراجعا عن موقفها التقليدي الداعم لما تسميه “حق تقرير المصير”. وهو ما تسعى إلى تفاديه بشكل ممنهج، خاصة في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي.
2. المؤسسة العسكرية و”العقيدة الأمنية”
منذ عقود، تهيمن المؤسسة العسكرية على مفاصل الحكم في الجزائر، وهي التي ترسم السياسات الخارجية، خاصة تلك المتعلقة بالمغرب. ويقوم الخطاب الأمني للجيش على وجود “خطر خارجي دائم”، يتم استخدامه كمبرر لبسط النفوذ الداخلي، وتبرير الإنفاق العسكري المرتفع.
وتشير تقارير مراكز أبحاث (مثل مركز ستوكهولم للسلام SIPRI) إلى أن الجزائر حافظت على مكانتها كأول مستورد للسلاح في إفريقيا بين 2010 و2023، وخصصت أكثر من 9 مليار دولار سنويا للإنفاق الدفاعي. وفي هذا السياق، يعتبر المغرب “التهديد الضروري ” الذي يبرر استمرار تعبئة الرأي العام داخليا.
لذلك، فإن الاستجابة لدعوات الحوار المغربي تهدد بشكل مباشر سردية “الخطر المغربي”، وتزعزع مرتكزات العقيدة الأمنية للنظام.
3. القطيعة أداة للتفاوض
حين قررت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في غشت 2021، اتهمت الرباط بـ”أعمال عدائية”، من ضمنها اتهامات باستخدام برنامج التجسس بيغاسوس، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتورط في حرائق الغابات. ورغم أن الرباط نفت بشكل رسمي بعض تلك المزاعم وتجاهلت الرد على أخرى، إلا أن الجزائر استخدمت القطيعة كأداة ضغط دبلوماسي، وحاولت فرض أمر واقع جديد في العلاقات المغاربية.
وفي كل مرة يجدد فيها المغرب الدعوة للحوار، تقابل إما بالصمت الرسمي أو بالرفض غير المباشر عبر وسائل إعلام مقربة من السلطة. على سبيل المثال، عقب خطاب العرش لسنة 2021، الذي دعا فيه الملك إلى فتح الحدود واستئناف العلاقات، ردت وسائل إعلام جزائرية قائلة إن “اليد الممدودة لا تكفي حين تكون مشروطة أو مصحوبة بتصرفات استفزازية”، في إشارة إلى المواقف المغربية بشأن الصحراء.
4. الاصطفاف الدولي والمحاور المتضادة
اختار المغرب، منذ 2020، تموقعا استراتيجيا واضحا إلى جانب الولايات المتحدة، وقام باستئناف علاقاته مع إسرائيل في اتفاق ثلاثي ،وعزز شراكته مع الاتحاد الأوروبي ودول الخليج. في المقابل، كثفت الجزائر من تحالفها مع روسيا، وإيران، والصين، وجنوب إفريقيا، وهي دول تتقاطع في دعمها للبوليساريو أو في عدائها للسياسات الغربية.
في هذا السياق، فإن أي حوار مغربي جزائري قد يفقد الجزائر ورقة “القيادة الرمزية ” وينعكس على صورتها ” الثورية ” التي ورثتها من فترة السبعينات ، ويجعلها تبدو وكأنها تتراجع تحت ضغط المحور الغربي.
5. الحسابات الداخلية والهروب من الإصلاح
من منظور داخلي، تستغل السلطة الجزائرية التوتر مع المغرب لصرف الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، وعن انسداد الأفق السياسي. فالمعارضة مقيدة وأغلب المعارضين يتم إيداعهم في السجون، أو تتم ملاحقتهم في الغرب كما حدث مؤخرا مع أمير ديزاد الذي كان أحد أسباب التوتر مع فرنسا أيضا، كما أن الاحتجاجات تتم مواجهتها بالتضييق، ومطالب التغيير المؤسسي تم تعليقها منذ وقف مسار الحراك سنة 2020.
في ظل هذا الوضع، يمثل “الخطر المغربي” مادة إعلامية يومية، يتم توظيفها لتوحيد الجبهة الداخلية، وتأجيل أي مساءلة حقيقية حول الفساد، سوء التسيير، أو غياب الحريات.